فصل: فصل: في أَقْسَامِ الْإِيجَازِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهٌ: تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ:

كَادَ أَهْلُ الْبَيَانِ يُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَ مَفْعُولًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا، وَلِهَذَا قِيلَ فِي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]، مَعْنَاهُ: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. وَفِي: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 158]، مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ وَفِي: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَة: 143]، أُخِّرَتِ الصِّلَةُ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى، وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ، وَفِي الثَّانِي إِثْبَاتُ اخْتِصَاصِهِمْ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّل: الِاخْتِصَاصُ الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَهْمٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَر: 2]، ثُمَّ قَالَ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزُّمَر: 66]، وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أَغْنَى عَنْ إِفَادَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْصُورِ فِي مَحَلٍّ بِغَيْرِ صِيغَةِ الْحَصْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الْحَجّ: 77]، وَقَالَ: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يُوسُفَ: 40]، بَلْ قَوْلُهُ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الِاخْتِصَاصِ فَإِنَّ قَبْلَهَا {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِصَاصِ وَكَانَ مَعْنَاهَا (اعْبُدِ اللَّهَ) لَمَا حَصَلَ الْإِضْرَابُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى (بَلْ).
وَاعْتَرَضَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى مُدَّعِي الِاخْتِصَاصِ بِنَحْو: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزُّمَر: 64]، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدِ اللَّهَ كَانَ أَمْرُهُمْ بِالشِّرْكِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَخْصِيصِ غَيْرِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ.
وَرَدَّ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِه: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الْأَنْعَام: 84]، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى مَا رُدَّ بِهِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يُدَّعَى فِيهِ اللُّزُومُ، بَلِ الْغَلَبَةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ الشَّيْءُ عَنِ الْغَالِبِ.
قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الْأَنْعَام: 40، 41]، فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي (إِيَّاهُ) قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ.
وَقَالَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الِاقْتِنَاصِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاص: اشْتَهَرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إِنَّمَا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِه: وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا هُمْ بِهِ أَعَنَى. وَالْبَيَانِيُّونَ عَلَى إِفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ، وَيَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْحَصْرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ شَيْءٌ وَالْحَصْرُ شَيْءٌ آخَرُ وَالْفُضَلَاءُ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ لَفْظَةَ الْحَصْرِ؛ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا بِالِاخْتِصَاصِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ نَفْيُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَإِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، وَالِاخْتِصَاصُ قَصْدُ الْخَاصِّ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ افْتِعَالٌ مِنَ الْخُصُوصِ، وَالْخُصُوصُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْن: أَحَدُهُمَا عَامٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ.
وَالثَّانِي: مَعْنًى مُنْضَمٌّ إِلَيْهِ يَفْصِلُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَضَرَبَ زَيْدٌ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الضَّرْبِ. فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، أَخْبَرْتَ بِضَرْبٍ عَامٍّ وَقَعَ مِنْكَ عَلَى شَخْصٍ خَاصٍّ، فَصَارَ ذَلِكَ الضَّرْبُ الْمُخْبَرُ بِهِ خَاصًّا لِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْكَ وَمِنْ زَيْدٍ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ- أَعْنِي مُطْلَقَ الضَّرْبِ، وَكَوْنَهُ وَاقِعًا مِنْكَ، وَكَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى زَيْدٍ- قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا ثَلَاثَتَهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ قَصْدُهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ كَلَامَهُ، فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَرْجَحُ فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ.
فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، عُلِمَ أَنَّ خُصُوصَ الضَّرْبِ عَلَى زَيْدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ لَهُ جِهَتَانِ، فَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الِاخْتِصَاصُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ إِفَادَتَهُ السَّامِعَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ، وَلَا قَصْدٍ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، فَفِي الْحَصْرِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي هَذَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ قَائِلِيهِ لَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا لَمْ يَطَّرِدْ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 83]، لَوْ جُعِلَ فِي مَعْنَى: (مَا يَبْغُونَ إِلَّا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ) وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ الْحَصْرَ لَا مُجَرَّدَ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ، وَكَذَلِكَ: {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصَّافَّات: 86]، الْمُنْكَرُ إِرَادَتُهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4]، فِي تَقْدِيمِ الْآخِرَةِ وَبِنَاءِ (يُوقِنُونَ) عَلَى (هُمْ) تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ إِيقَانٍ، وَأَنَّ الْيَقِينَ مَا عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: تَقْدِيمُ الْآخِرَةِ أَفَادَ أَنَّ إِيقَانَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى أَنَّهُ إِيقَانٌ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنْ قَائِلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَرِض: وَتَقْدِيمُ (هُمْ) أَفَادَ أَنَّ هَذَا الْقَصْرَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فَيَكُونُ إِيقَانُ غَيْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ إِيمَانًا بِغَيْرِهَا؛ حَيْثُ قَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [الْبَقَرَة: 80]، وَهَذَا مِنْهُ- أَيْضًا- اسْتِمْرَارٌ عَلَى مَا فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْحَصْرِ؛ أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا. وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ فَهَمُهُ الْحَصْرَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالْحَصْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: بِـ: (مَا) وَ(إِلَّا) كَقَوْلِكَ: (مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ) صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَيَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ. قِيلَ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لَكِنَّهُ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ؛ لِأَنَّ (إِلَّا) مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الْإِخْرَاجُ، فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْإِخْرَاجِ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ، وَلَكِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْقِيَامِ بَلْ قَدْ يَسْتَلْزِمُهُ، فَلِذَلِكَ رَجَّحْنَا أَنَّهُ بِالْمَفْهُومِ، وَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ الْمَنْطُوقُ.
وَالثَّانِي: الْحَصْرُ بِـ: (إِنَّمَا) وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَانِبُ الْإِثْبَاتِ فِيهِ أَظْهَرَ فَكَأَنَّهُ يُفِيدُ إِثْبَاتَ قِيَامِ زَيْدٍ، إِذَا قُلْتَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ بِالْمَنْطُوقِ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ بِالْمَفْهُومِ.
الثَّالِثُ: الْحَصْرُ الَّذِي قَدْ يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، مِثْلُ الْحَصْرَيْنِ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ فِي قُوَّةِ جُمْلَتَيْن: إِحْدَاهُمَا مَا صَدَرَ بِهِ الْحُكْمُ نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا، وَهُوَ الْمَنْطُوقُ، وَالْأُخْرَى مَا فُهِمَ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَالْحَصْرُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَنْطُوقِ فَقَطْ دُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِذَا قُلْتَ: أَنَا لَا أُكْرِمُ إِلَّا إِيَّاكَ أَفَادَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ غَيْرَكَ يُكْرِمُ غَيْرَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّكَ لَا تُكْرِمُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النُّور: 3]، أَفَادَ أَنَّ الْعَفِيفَ قَدْ يَنْكِحُ غَيْرَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ نِكَاحِهِ الزَّانِيَةَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَهُ: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النُّور: 3]، بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ، فَلَوْ قَالَ: (بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ) أَفَادَ بِمَنْطُوقِهِ إِيقَانَهُمْ بِهَا وَمَفْهُومُهُ عِنْدَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ قُوَّةُ إِيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ حَتَّى صَارَ غَيْرُهَا عِنْدَهُمْ كَالْمَدْحُوضِ، فَهُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ دُونَ قَوْلِنَا: يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا، فَاضْبِطْ هَذَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ: لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَتَقْدِيمُ (هُمْ) أَفَادَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَوْ جَعَلْنَا التَّقْدِيرَ: لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُهِمُّ: النَّفْيَ، فَيَتَسَلَّطُ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِفَادَةَ أَنَّ غَيْرَهُمْ يُوقِنُ بِغَيْرِهَا كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ، وَيُطْرَحُ إِفْهَامُ أَنَّهُ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، بَلِ الْمُرَادُ إِفْهَامُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ حَافَظْنَا عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ إِثْبَاتُ الْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ لِيَتَسَلَّطَ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْحَصْرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلِ (مَا) (وَإِلَّا) وَمِثْلِ (إِنَّمَا)، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِمَفْهُومٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ مَنْطُوقٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُتَقَيِّدًا بِالْآخَرِ حَتَّى تَقُولَ إِنَّ الْمَفْهُومَ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ الْمَحْصُورِ، بَلْ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْحَصْرِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: إِنَّهُ اخْتِصَاصٌ، وَإِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا. انْتَهَى كَلَامُ السُّبْكِيِّ.

.النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ:

اعْلَمْ أَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ، حَتَّى نَقَلَ صَاحِبُ سِرِّ الْفَصَاحَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: اللُّغَةُ هِيَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ.
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّاف: كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ، أَنْشَدَ الْجَاحِظُ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ** وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

.هَلْ بَيْنَ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ وَاسِطَةٌ:

وَاخْتُلِفَ: هَلْ بَيْنَ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ أَوْ لَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْإِيجَازِ‏؟
فَالسَّكَّاكِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمُسَاوَاةَ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ وَلَا مَذْمُومَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ كَلَامِ أَوْسَاطِ النَّاسِ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي رُتْبَةِ الْبَلَاغَةِ، وَفَسَّرُوا الْإِيجَازَ بِأَدَاءِ الْمَقْصُودِ بِأَقَلِّ مِنْ عِبَارَةِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْإِطْنَابُ أَدَاؤُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا؛ لِكَوْنِ الْمَقَامِ خَلِيقًا بِالْبَسْطِ.
وَابْنُ الْأَثِيرِ وَجَمَاعَةٌ عَلَى الثَّانِي، فَقَالُوا: الْإِيجَازُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُرَادِ بِلَفْظٍ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالْإِطْنَابُ بِلَفْظٍ أَزْيَدَ.
وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ تَأْدِيَةُ أَصْلِهِ، إِمَّا بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ الْمُرَادِ، أَوْ نَاقِصٍ عَنْهُ وَافٍ، أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهِ لِفَائِدَةٍ. وَالْأَوَّلُ الْمُسَاوَاةُ، وَالثَّانِي الْإِيجَازُ، وَالثَّالِثُ الْإِطْنَابُ. وَاحْتَرَزَ بِوَافٍ عَنِ الْإِخْلَالِ، وَبِقَوْلِنَا لِفَائِدَةٍ عَنِ الْحَشْوِ وَالتَّطْوِيلِ، فَعِنْدَهُ ثُبُوتُ الْمُسَاوَاةِ وَاسِطَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ قِسْمِ الْمَقْبُولِ.
فَإِنْ قُلْتَ: عَدَمُ ذِكْرِكَ الْمُسَاوَاةَ فِي التَّرْجَمَةِ لِمَاذَا؟ هَلْ هُوَ لِرُجْحَانِ نَفْيِهَا أَوْ عَدَمِ قَبُولِهَا أَوْ لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَلِكَ؟
قُلْتُ: لَهُمَا وَلِأَمْرٍ ثَالِثٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَكَادُ تُوجَدُ خُصُوصًا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهَا فِي التَّلْخِيصِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فَاطِرٍ: 43]، وَفِي الْإِيضَاحِ بِقَوْلِه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْأَنْعَام: 68]، وَتُعُقِّبَ: بِأَنَّ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ حَذْفَ مَوْصُوفِ (الَّذِينَ)، وَفِي الْأَوْلَى إِطْنَابٌ بِلَفْظِ السَّيِّئِ؛ لِأَنَّ الْمَكْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا سَيِّئًا، وَإِيجَازٌ بِالْحَذْفِ إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ مُفَرَّغٍ؛ أَيْ: بِأَحَدٍ، وَبِالْقَصْرِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِكَوْنِهَا حَاثَّةً عَلَى كَفِّ الْأَذَى عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، مُحَذِّرَةً عَنْ جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَبِأَنَّ تَقْدِيرَهَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ مَضَرَّةً بَلِيغَةً، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّ (يَحِيقُ) بِمَعْنَى (يُحِيطُ)، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ.
تَنْبِيهٌ:
الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمِفْتَاحِ، وَصَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاخْتِصَارُ خَاصٌّ بِحَذْفِ الْجُمَلِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْإِيجَازِ.
قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَالْإِطْنَابُ قِيلَ: بِمَعْنَى الْإِسْهَابِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِسْهَابَ التَّطْوِيلُ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ، ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ وَغَيْرُهُ.

.فصل: في أَقْسَامِ الْإِيجَازِ:

الْإِيجَازُ قِسْمِان: إِيجَازُ قَصْرٍ وَإِيجَازُ حَذْفٍ.

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِيجَازُ قَصْرٍ:

فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجِيزُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: الْكَلَامُ الْقَلِيلُ إِنْ كَانَ بَعْضًا مِنْ كَلَامٍ أَطْوَلَ مِنْهُ فَهُوَ إِيجَازُ حَذْفٍ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا يُعْطِي مَعْنًى أَطْوَلَ مِنْهُ فَهُوَ إِيجَازُ قَصْرٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِيجَازُ الْقَصْرِ هُوَ تَكْثِيرُ الْمَعْنَى بِتَقْلِيلٍ اللَّفْظِ.
وَقَالَ آخَرُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى أَقَلَّ مِنَ الْقَدْرِ الْمَعْهُودِ عَادَةً، وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوتِيَتْ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي التِّبْيَانِ: الْإِيجَازُ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: إِيجَازُ الْقَصْر: وَهُوَ أَنْ يُقْصَرَ اللَّفْظُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ كَقَوْلِه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِه: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النَّمْل: 30، 31]، جَمَعَ فِي أَحْرُفِ الْعُنْوَانِ وَالْكِتَابِ وَالْحَاجَةِ. وَقِيلَ: فِي وَصْفٍ بَلِيغٍ: كَانَتْ أَلْفَاظُهُ قَوَالِبَ مَعْنَاهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُدْخِلُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِيجَازِ.
الثَّانِي: إِيجَازُ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْمَنْطُوقِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ وَيُسَمَّى بِالتَّضْيِيقِ أَيْضًا، وَبِهِ سَمَّاهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاحِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ مَا صَارَ لَفْظُهُ أَضْيَقَ مِنْ قَدْرِ مَعْنَاهُ، نَحْو: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [الْبَقَرَة: 275]؛ أَيْ: خَطَايَاهُ غُفِرَتْ فَهِيَ لَهُ لَا عَلَيْهِ. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2]؛ أَي: الضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ بَعْدَ الضَّلَالِ إِلَى التَّقْوَى.
الثَّالِثُ: الْإِيجَازُ الْجَامِعُ، وَهُوَ أَنْ يَحْتَوِيَ اللَّفْظُ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ، نَحْو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ [النَّحْل: 90]، فَإِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، الْمُومَى بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
وَالْإِحْسَانُ: هُوَ الْإِخْلَاصُ فِي وَاجِبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِتَفْسِيرِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»؛ أَيْ: تَعَبُّدَهُ مُخْلِصًا فِي نِيَّتِكَ، وَوَاقِفًا فِي الْخُضُوعِ، آخِذًا أُهْبَةَ الْحَذَرِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى. {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّوَافِلِ. هَذَا فِي الْأَوَامِرِ، وَأَمَّا النَّوَاهِي: فَبِـ: (الْفَحْشَاءِ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَبِـ: (الْمُنْكِرِ) إِلَى الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ مِنْ آثَارِ الْغَضَبِيَّةِ، أَوْ كُلِّ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَبِـ: (الْبَغْيِ) إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْفَائِضِ عَنِ الْوَهْمِيَّةِ.
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} أَخْرَجَهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا يَوْمًا ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمَعَ لَكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمْعَهُ، وَلَا تَرْكَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكِرُ وَالْبَغِيُّ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمَعَهُ. قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.
وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ الشَّيْخَيْن: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 199]، فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْعَفْوِ التَّسَاهُلَ وَالتَّسَامُحَ فِي الْحُقُوقِ وَاللِّينَ وَالرِّفْقَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الدِّينِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ كَفُّ الْأَذَى وَغَضُّ الْبَصَرِ وَمَا شَاكَلَهُمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِي الْإِعْرَاضِ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالتُّؤَدَةِ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 1]، إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ نِهَايَةُ التَّنْزِيهِ وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الرَّدَّ عَلَى نَحْو: أَرْبَعِينَ فِرْقَةً، كَمَا أَفْرَدَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ شَدَّادٍ.
وَقَوْلُهُ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النَّازِعَات: 31]، دَلَّ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّارِ وَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الْوَاقِعَة: 19]، جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ عُيُوبِ الْخَمْرِ مِنَ الصُّدَاعِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ، وَذَهَابِ الْمَالِ، وَنَفَاذِ الشَّرَابِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الْآيَةَ [هُودٍ: 44]، أَمَرَ فِيهَا وَنَهَى وَأَخْبَرَ وَنَادَى، وَنَعَتَ وَسَمَّى، وَأَهْلَكَ وَأَبْقَى، وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، وَقَصَّ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا لَوْ شُرِحَ مَا انْدَرَجَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ بَدِيعِ اللَّفْظِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ لَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ بَلَاغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّأْلِيفِ.
وَفِي الْعَجَائِبِ لِلْكِرْمَانِيّ: أَجْمَعَ الْمُعَانِدُونَ عَلَى أَنَّ طَوْقَ الْبَشَرِ قَاصِرٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ فَتَّشُوا جَمِيعَ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَمْ يَجِدُوا مِثْلَهَا فِي فَخَامَةِ أَلْفَاظِهَا، وَحُسْنِ نَظْمِهَا، وَجَوْدَةِ مَعَانِيهَا فِي تَصْوِيرِ الْحَالِ مَعَ الْإِيجَازِ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} الْآيَةَ [النَّمْل: 18]، جَمَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدَ عَشَرَ جِنْسًا مِنَ الْكَلَام: نَادَتْ، وَكَنَّتْ، وَنَبَّهَتْ، وَسَمَّتْ، وَأَمَرَتْ، وَقَصَّتْ، وَحَذَّرَتْ، وَخَصَّتْ، وَعَمَّتْ، وَأَشَارَتْ، وَعَذَرَتْ.
فَالنِّدَاءُ: (يَا)، وَالْكِنَايَةُ: (أَيْ)، وَالتَّنْبِيهُ: (هَا)، وَالتَّسْمِيَةُ: {النَّمْلُ}، وَالْأَمْرُ: {ادْخُلُوا}، وَالْقَصَصُ: {مَسَاكِنَكُمْ}، وَالتَّحْذِيرُ: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}، وَالتَّخْصِيصُ: {سُلَيْمَانُ}، وَالتَّعْمِيمُ: {جُنُودُهُ}، وَالْإِشَارَةُ: {وَهُمْ}، وَالْعُذْرُ: {لَا يَشْعُرُونَ}، فَأَدَّتْ خَمْسَةَ حُقُوقٍ: حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ رَسُولِهِ، وَحَقَّهَا، وَحَقَّ رَعِيَّتِهَا، وَحَقَّ جُنُودِ سُلَيْمَانَ.
وَقَوْلُهُ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 31]، جُمِعَ فِيهَا أُصُولُ الْكَلَام: النِّدَاءُ، وَالْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ، وَالْأَمْرُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمَعَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي شَطْرِ آيَة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَاف: 31].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الْآيَةَ [الْقَصَص: 7]، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيٍ فِي الْقُرْآنِ فَصَاحَةً؛ إِذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ.
وَقَوْلُهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94]، قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: الْمَعْنَى صَرِّحَ بِجَمِيعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَبَلِّغْ كُلَّ مَا أُمِرْتَ بِبَيَانِهِ، وَإِنْ شَقَّ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْقُلُوبِ فَانْصَدَعَتْ. وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُؤْثِرُهُ التَّصْرِيحُ فِي الْقُلُوبِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّقَبُّضِ وَالِانْبِسَاطِ، وَيَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْشَارِ، كَمَا يَظْهَرُ عَلَى ظَاهِرِ الزُّجَاجَةِ الْمَصْدُوعَةِ، فَانْظُرْ إِلَى جَلِيلِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَعِظَمِ إِيجَازِهَا، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ سَجَدَ وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزُّخْرُف: 71]، قَالَ بَعْضُهُمْ: جُمِعَ بِهَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَا لَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى وَصْفِ مَا فِيهَا عَلَى التَّفْصِيلِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]، فَإِنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ وَلَفْظُهُ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى الْقَتْلِ، فَارْتَفَعَ بِالْقَتْلِ- الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ- كَثِيرٌ مِنْ قَتْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَانَ ارْتِفَاعُ الْقَتْلِ حَيَاةً لَهُمْ.
وَقَدْ فُضِّلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَوْجَزِ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ بِعِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى إِنْكَارِ هَذَا التَّفْضِيلِ وَقَالَ: لَا تَشْبِيهَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذِلَكَ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا يُنَاظِرُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْقِصَاصُ حَيَاةٌ} أَقَلُّ حُرُوفًا، فَإِنَّ حُرُوفَهُ عَشْرَةٌ وَحُرُوفُ (الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ) أَرْبَعَةَ عَشَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ، وَالْآيَةُ نَاصَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَنْكِيرَ (حَيَاةٍ) يُفِيدُ تَعْظِيمًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً مُتَطَاوِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [الْبَقَرَة: 96]، وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ، فَإِنَّ اللَّامَ فِيهَا لِلْجِنْسِ؛ وَلِذَا فَسَّرُوا الْحَيَاةَ فِيهَا بِالْبَقَاءِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ فِيهَا مُطَّرِدَةٌ بِخِلَافِ الْمَثَلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَدْعَى لَهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ ظُلْمًا؛ وَإِنَّمَا يَنْفِيهِ قَتْلٌ خَاصٌّ؛ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَفِيهِ حَيَاةٌ أَبَدًا.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ خَالِيَةٌ مِنْ تَكْرَارِ لِفَظِ الْقَتْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَثَلِ، وَالْخَالِي مِنَ التَّكْرَارِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِالْفَصَاحَةِ.
السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِ حَذَفَ (مِنْ) الَّتِي بَعْدَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَمَا بَعْدَهَا، وَحُذِفَ (قِصَاصًا) مَعَ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، وَظُلْمًا مَعَ الْقَتْلِ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: الْقَتْلُ قِصَاصًا أَنْفَى لِلْقَتْلِ ظُلْمًا مِنْ تَرْكِهِ.
السَّابِعُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ طِبَاقًا؛ لِأَنَّ الْقَصَاصَ يُشْعِرُ بِضِدِّ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ الْمَثَلِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى فَنٍّ بَدِيعٍ؛ وَهُوَ جَعْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ مَحْلًّا وَمَكَانًا لِضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ، وَاسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْتِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ وَعَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْإِيضَاح: بِأَنَّهُ جَعَلَ الْقِصَاصَ كَالْمَنْبَعِ لِلْحَيَاةِ وَالْمَعْدِنِ لَهَا بِإِدْخَالِ (فِي) عَلَيْهِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ فِي الْمَثَلِ تَوَالِيَ أَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ خَفِيفَةٍ، وَهُوَ السُّكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَكْرَهٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِذَا تَوَالَتْ حَرَكَاتُهُ تَمَكَّنَ اللِّسَانُ مِنَ النُّطْقِ بِهِ، وَظَهَرَتْ بِذَلِكَ فَصَاحَتُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَقَّبَ كُلَّ حَرَكَةٍ سُكُونٌ، فَالْحَرَكَاتُ تَنْقَطِعُ بِالسَّكَنَاتِ. نَظِيرُهُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الدَّابَّةُ أَدْنَى حَرَكَةٍ فَحُبِسَتْ، ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَحُبِسَتْ، لَا تُطِيقُ إِطْلَاقَهَا، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا تَخْتَارُهُ، فَهِيَ كَالْمُقَيَّدَةِ.
الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمَثَلَ كَالْمُتَنَاقِضِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْفِي نَفْسَهُ.
الْحَادِي عَشَرَ: سَلَامَةُ الْآيَةِ مِنْ تَكْرِيرِ قَلْقَلَةِ الْقَافِ الْمُوجِبِ لِلضَّغْطِ وَالشِّدَّةِ، وَبُعْدُهَا عَنْ غُنَّةٍ النُّونِ.
الثَّانِي عَشَرَ: اشْتِمَالُهَا عَلَى حُرُوفٍ مُتَلَائِمَةٍ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى الصَّادِ؛ إِذِ الْقَافُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَالصَّادُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْإِطْبَاقِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى التَّاءِ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ مُنْخَفِضٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْقَافِ، وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَحْسَنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ، لِبُعْدِ مَا دُونَ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَقْصَى الْحَلْقِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي النُّطْقِ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَلَا كَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَافِ وَالتَّاءِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: سَلَامَتُهَا مَنْ لَفْظِ الْقَتْلِ الْمُشْعِرِ بِالْوَحْشَةِ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الطِّبَّاعَ أَقْبَلُ لَهُ مَنْ لَفْظِ الْقَتْلِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ، فَهُوَ مُنْبِئٌ عَنِ الْعَدْلِ، بِخِلَافِ مُطْلَقِ الْقَتْلِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: الْآيَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَالْمَثَلُ عَلَى النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتُ أَشْرَفُ لِأَنَّهُ أَوَّلٌ، وَالنَّفْيُ ثَانٍ عَنْهُ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْمَثَلَ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْحَيَاةُ.
وَقَوْلُهُ: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مَفْهُومٌ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ فِي الْمَثَلِ بِنَاءَ (أَفْعَلَ) التَّفْضِيلِ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْهُ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ (أَفْعَلَ) فِي الْغَالِبِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْقِصَاصِ نَافِيًا لِلْقَتْلِ، وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَكْثَرُ نَفْيًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ.
الْعِشْرُونَ: أَنَّ الْآيَةَ رَادِعَةٌ عَنِ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ مَعًا لِشُمُولِ الْقِصَاصِ لَهُمَا، وَالْحَيَاةُ- أَيْضًا- فِي قِصَاصِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ يُنْقِصُ مَصْلَحَةَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ فَيُزِيلُهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ.
فِي أَوَّلِ الْآيَة: (وَلَكُمْ)، وَفِيهَا لَطِيفَةٌ؛ وَهِيَ بَيَانُ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ حَيَاتُهُمْ لَا غَيْرُهُمْ، لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِهِ فِيمَنْ سِوَاهُمْ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: ذَكَرَ قُدَامَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْإِشَارَةَ، وَفَسَّرَهَا بِالْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ قَلِيلٍ ذِي مَعَانٍ جَمَّةٍ. وَهَذَا هُوَ إِيجَازُ الْقَصْرِ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ بِأَنَّ الْإِيجَازَ دَلَالَتُهُ مُطَابَقَةٌ، وَدَلَالَةُ الْإِشَارَةِ إِمَّا تَضَمُّنٌ أَوِ الْتِزَامٌ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَبْحَثِ الْمَنْطُوقِ.
الثَّانِي: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ مِنَ الْإِيجَازِ نَوْعًا يُسَمَّى التَّضْمِينُ؛ وَهُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِي لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ بِاسْمٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ.
قَالَ: وَهُوَ نَوْعَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبَيِّنَةِ؛ كَقَوْلِه: مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ.
وَالثَّانِي: مِنْ مَعْنَى الْعِبَارَةِ كَـ: (بَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، فَإِنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ.
الثَّالِثُ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَصَاحِبُ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ إِيجَازِ الْقَصْرِ بَابُ الْحَصْرِ؛ سَوَاءً كَانَ بِإِلَّا، أَوْ بِإِنَّمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَدَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِيهَا نَابَتْ مَنَابَ جُمْلَتَيْنِ.
وَبَابُ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَهُ وُضِعَ لِلْإِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ.
وَبَابُ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى الْفَاعِلِ بِإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِوَضْعِهِ.
وَبَابُ الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا، وَلِذَا لَا يُعْدَلُ إِلَى الْمُنْفَصِلِ مَعَ إِمْكَانِ الْمُتَّصِلِ.
وَبَابُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِاسْمٍ وَاحِدٍ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ.
وَمِنْهَا: بَابُ التَّنَازُعِ، إِذَا لَمْ نُقَدِّرْ عَلَى رَأْيِ الْفَرَّاءِ.
وَمِنْهَا: جَمْعُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ، فَإِنَّ (كَمْ مَالُكَ) يُغْنِي عَنْ قَوْلِكَ: أَهْوَ عِشْرُونَ أَمْ ثَلَاثُونَ؟ وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. وَمِنْهَا الْأَلْفَاظُ اللَّازِمَةُ لِلْعُمُومِ كَأَحَدٍ.
وَمِنْهَا: لَفْظُ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَإِنَّهُ يُغْنِي عَنْ تَكْرِيرِ الْمُفْرَدِ، وَأُقِيمَ الْحَرْفُ فِيهِمَا مَقَامَهُ اخْتِصَارًا. وَمِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ أَنْوَاعِه: الْمُسَمَّى بِالِاتِّسَاعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ؛ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يَتَّسِعُ فِيهِ التَّأْوِيلُ بِحَسَبَ مَا تَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُهُ مِنَ الْمَعَانِي، كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ.